أوبنهايمر Oppenheimer.. “مدمر العوالم” وبطل فيلم نولان

جوليوس روبرت أوبنهايمر (J.Robert Oppenheimer)، “أبو القنبلة الذرية”، من أبرز مفكري القرن العشرين، وأحد العلماء الاستثنائيين في الفيزياء النظرية جنبًا إلى جنب مع أينشتاين وريتشارد فاينمان. ولكن رغم عبقريته الفذة وغموض شخصيته ووصفه كأحد ألمع العقول، سيظل اسمه مرتبطًا بأهم حدثًا في التاريخ البشري، وهو اختراع القنبلة الذرية وتغيير مسار العالم الحديث.
دعنا نتعرف إلى حياة هذا الرجل، ونشأته، وتعليمه، وكيف أثر مشروع مانهاتن على مسار حياته، وصولًا للحظة الحاسمة في السادس عشر من يوليو عام 1945، لحظة بداية العصر النووي.
من هو أوبنهايمر؟
ولد في 22 أبريل 1904، كان والديه، يوليوس س. أوبنهايمر، تاجر نسيج من أصل ألماني ثري، وإيلا فريدمان، فنانة، كانا من أصل يهودي لكنهما لم يكونا ملتزمين دينيًا. التحق بمدرسة جمعية الثقافة الأخلاقية في سبتمبر 1911، التي سُمي مختبرها للفيزياء باسمه منذ ذلك الحين. كانت براعته الأكاديمية واضحة في وقت مبكر جدًا.
وبحلول سن العاشرة، بدأ يدرس المعادن والفيزياء والكيمياء. حتى أنه دُعي لإلقاء محاضرة في أحد النوادي العلمية وهو فقط في الثانية عشرة من عمره.
تخرج كطالب متفوق في فصل مدرسته الثانوية في عام 1921 لكنه مرض بحالة شبه قاتلة من الزحار(Dysentery) واضطر إلى تأجيل التسجيل في جامعة هارفارد.
مرحلة الجامعة واكتشاف شغفه بالفيزياء
التحق بجامعة هارفارد في سبتمبر 1922، وتخرج في ثلاث سنوات، متفوقًا في مجموعة متنوعة من الموضوعات. وعلى الرغم من تخصصه في الكيمياء، أدرك أوبنهايمر في النهاية أن شغفه الحقيقي هو دراسة الفيزياء.
في عام 1925، بدأ عمله في الدراسات العليا في الفيزياء في مختبر كافنديش في كامبريدج، إنجلترا، وذلك تحت إشراف جيه جيه طومسون (J. J. Thomson)، الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1906 لاكتشافه الإلكترون. ولكن أدرك أوبنهايمر أن موهبته كانت في الفيزياء النظرية وليست التجريبية، وقَبل دعوة من ماكس بورن (Max Born)، مدير معهد الفيزياء النظرية في جامعة جيرتينجن، للدراسة معه في ألمانيا.
كان من حسن حظه أن يكون في أوروبا خلال فترة محورية في عالم الفيزياء، حيث كان الفيزيائيون الأوروبيون يطورون نظرية ميكانيكا الكم الرائدة. حصل على الدكتوراه في عام 1927 وهو في الثالثة والعشرين من عمره فقط، وهناك نشر العديد من المساهمات المهمة في نظرية الكم.
أبرزها ورقة شهيرة حول ما يسمى بتقريب بورن أوبنهايمر (Born-Oppenheimer approximation)، وفي نفس عام 1927، عاد إلى جامعة هارفارد لدراسة الفيزياء الرياضية، وأيضًا كزميل في المجلس القومي للبحوث، وفي أوائل عام 1928، درس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. وأصبح أستاذًا مساعدًا في الفيزياء في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وحافظ على التوازن مع معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
أصبح لأوبنهايمر الفضل في كونه الأب المؤسس للمدرسة الأمريكية للفيزياء النظرية، وأجرى أبحاثًا مهمة في الفيزياء الفلكية والفيزياء النووية، إذ أنه في ثلاثينيات القرن العشرين، كان أول من كتب الأوراق التي تشير إلى وجود ما نسميه اليوم الثقوب السوداء (Black Holes).
مشروع مانهاتن وأغراضه السياسية البحتة
كان اسم مشروع مانهاتن، الذي بدأ في عام 1942، مجرد ستار للحفاظ على السرية التامة للمشروع الحقيقي، ألا وهو صنع أول قنبلة ذرية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وكان المشروع نتيجة جهد تعاوني هائل بين حكومة الولايات المتحدة والقطاعات الصناعية والعلمية خلال الحرب العالمية الثانية.
كان غرضها هو السيطرة على الحرب وإنهائها لمصالح سياسية، دون الاهتمام لتداعيات الأمر.
كيف بدأ مشروع مانهاتن؟ ولماذا في ذلك الوقت تحديدًا؟
بدأت قصة مشروع مانهاتن في عام 1938، عندما اكتشف العالمان الألمانيان أوتو هان (Otto Hahn) وفريتز ستراسمان (fritz Strassmann) عن غير قصد الانشطار النووي (Nuclear fission). بعد بضعة أشهر، أرسل ألبرت أينشتاين وليو زيلارد رسالة إلى الرئيس روزفلت (Franklin D.Roosevelt) يحذرانه من أن ألمانيا قد تحاول بناء قنبلة ذرية وأنه يجب أن يقوم بنفس الأمر حتى تتعادل موازين القوى العسكرية.
ردًا على ذلك، شكل روزفلت لجنة اليورانيوم، وهي مجموعة من كبار الخبراء العسكريين والعلميين لتحديد جدوى التفاعل النووي المتسلسل (Nuclear chain reaction).
لم تُؤخذ أي إجراءات في المشروع حتى ربيع 1941 بعد التأكد من جدوى صنع القنبلة الذرية. في ذلك الوقت كان أوبنهايمر قد تزوج من كاثرين بيونينغ (Katherine Puening)، طالبة راديكالية يسارية في بيركلي، وأنجب طفله الأول، بيتر.
جذبت إنجازات أوبنهايمر انتباه الجيش الأمريكي في جهوده لتطوير الأسلحة الذرية، واختاره الجنرال ليزلي غروفز (Leslie Groves)، الضابط العسكري المسؤول عن مشروع مانهاتن، لقيادة موقع اختبار لوس ألاموس (Los Alamos) الواسع وتنفيذ متطلبات المشروع، الذي كلف أكثر من 2 مليار دولار. جمع أوبنهايمر ما يقرب من 4000 من أفضل العقول في العلوم إلى لوس ألاموس، وبعد مجهودات علمية مهولة، انتهى عمل أوبنهايمر على القنبلة وسلمها بعد قرابة عامين.
اختبار ترينيتي (الثالوث) Trinity Test
فجر اليوم السادس عشر من يونيو عام 1945، كان الموقع المختار ركنًا نائيًا في نطاق قصف ألاماغوردو المعروف باسم “Jordana del muerto” أو “رحلة الموت”، على بعد 210 ميلًا جنوب لوس ألاموس. لم يكن كأي يوم معتاد، فهذا اليوم كان اختبار القنبلة الذرية لأول مرة ومعرفة ما إذا نجح العلماء في مسعاهم أم باءوا بالفشل، هذا اليوم سيصبح دون شك أهم يوم في القرن العشرين وفي التاريخ الحديث بأكمله.
لم يشهد العالم انفجارًا نوويًا من قبل، وتباينت التقديرات على نطاق واسع حول كمية الطاقة المطلقة، والشكوك ما إذا كانت ستعمل على الإطلاق. ولكن اختبار قنبلة البلوتونيوم بدا أمرًا حيويًا، سواء لتأكيد تصميمها الجديد للانفجار الداخلي أو لجمع البيانات عن التفجيرات النووية بشكل عام.
اختبر العلماء الأجهزة المعقدة المحيطة بالموقع بانفجار كمية كبيرة من المتفجرات التقليدية في 7 مايو. واستمرت الأعمال التحضيرية طوال شهري مايو ويونيه واكتملت بحلول بداية يوليه.
ستحاول ثلاثة مخابئ مراقبة تقع على بعد 10000 ياردة شمال وغرب وجنوب برج إطلاق النار عند نقطة الصفر، قياس الجوانب الرئيسية للتفاعل. سيحاول العلماء تحديد تناظر الانفجار الداخلي وكمية الطاقة المنبعثة. وستؤخذ قياسات إضافية لتحديد تقديرات الأضرار.
كان الشاغل الأكبر هو التحكم في النشاط الإشعاعي الذي سيطلقه جهاز الاختبار. لم يكتف الجيش بالثقة في ظروف الأرصاد الجوية المواتية لنقل النشاط الإشعاعي إلى الغلاف الجوي العلوي، فقد وقف على أهبة الاستعداد لإجلاء الناس في المناطق المحيطة.
اللحظة الحاسمة
وصل ليزلي جروفز، وفانيفار بوش، وجيمس كونانت، وإرنست لورانس، وتوماس فاريل، وجيمس تشادويك، وآخرون إلى منطقة الاختبار، بينما راقب أوبنهايمر وبعض العلماء الأخرين، مثل: إدوارد تيلر، الوضع من مخابئ المراقبة.
خلال الثواني الأخيرة، كان الحال بين الشك والخوف والتوتر. وصلوا إلى ثلاثة.. اثنان .. واحد.. وانفجر الجهاز فوق صحراء نيو مكسيكو. بعد ثوان من الانفجار جاءت موجة انفجار ضخمة وحرارة مشتعلة عبر الصحراء. لم يستطع أحد رؤية الإشعاع الناتج عن الانفجار، لكنهم كانوا يعرفون جميعًا أنه كان هناك.
عندما امتدت كرة النار البرتقالية والصفراء(وصف شكل الانفجار) وانتشرت، ارتفع عمود ثان، أضيق من الأول، واستوى إلى شكل فطر، مما يوفر للعصر الذري صورة مرئية أصبحت مطبوعة على الوعي البشري كرمز للقوة والدمار الرائع.
اختلفت هنا ردود أفعال العلماء ما بين الضحك والبكاء ولكن المعظم صعقه الأمر وصمت فقط أمام هذا المشهد المهيب، وأطلق هنا أوبنهايمر جملة شهيرة من النص الهندوسي المقدس، البهاغافاد غيتا (Bhagavad Gita)، “الآن أنا أصبحت الموت، مدمر العوالم”. فقد علموا جميعًا آنذاك إن العالم لن يكون كما كان عليه قبل هذه اللحظة.
بعد انتهاء الحرب،عُين أوبنهايمر رئيسًا للجنة الاستشارية العامة لهيئة الطاقة الذرية (AEC)، حيث خدم من عام 1947 إلى عام 1952.

محاكمة أوبنهايمر
عندما انتهت الحرب، أنشأت الحكومة لجنة الطاقة الذرية لتحل محل مشروع مانهاتن. ثم كلفتها بالإشراف على جميع الأبحاث والتطوير الذري في الولايات المتحدة. كرئيس للجنة الاستشارية العامة، عارض أوبنهايمر تطوير القنبلة الهيدروجينية، والمعروفة باسم “القنبلة الفائقة”، التي كانت أقوى بألف مرة من القنبلة الذرية. ولم يكن هناك سبب حربي لصنعها، ولكن كانت ستثبت تفوق القاعدة النووية العسكرية للولايات المتحدة عن الاتحاد السوفييتي، الذي كان انتهى بالفعل من صنع أول قنبلة نووية واختبارها عام 1949.
في سياق الحرب الباردة، عندما تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على السلطة، اشتبهت المخابرات الأمريكية في أن أوبنهايمر له علاقات مع الشيوعيين، وواجه اتهامات بعدم الولاء بسبب معارضته لإنشاء القنبلة الهيدروجينية.
تعرض بسبب هذا الاشتباه لتحقيق أمني أصبح سببًا في تقسيم المجتمع الفكري والعلمي. في عام 1953، حُرم من التصريح الأمني وفقد منصبه. غضب المجتمع العلمي من معاملة أوبنهايمر، وشُتم إدوارد تيلر Edward Teller، الذي شهد ضده في جلسة الأستماع، ولمح عنه أنه قد يكون متورطًا في بعض تقارير الخيانة والتحالف مع السوفييت.
الجدير بالذكر أن إدوارد تيلر كان من المؤيدين إلى جانب أعضاء آخرين في إدارة أيزنهاور، لمواصلة تطويرالقنبلة الهيدروجينية، والتي من المحتمل أن يتم التعامل معها من قبل القوات الجوية. وكان يريد أن يعمل ضمن فريق لا يترأسه أوبنهايمر، وهذا جزء من شهادته ضده قائلًا: “في عدد كبير من الحالات، رأيت الدكتور أوبنهايمر يتصرف بطريقة كان من الصعب جدًا فهمها بالنسبة لي. اختلف تمامًا معه في العديد من القضايا وأفعاله بصراحة. إلى هذا الحد أشعر أنني أود أن أرى المصالح الحيوية لهذا البلد في أيدٍ أفهمها بشكل أفضل، وبالتالي أثق أكثر”.
يتذكر أحد حضور جلسة استماعه الأمنية قائلًا:” أخذ أوبنهايمر نتيجة جلسة الاستماع الأمنية بهدوء شديد لكنه كان شخصا متغيرًا؛ الكثير من روحه السابقة وحيويته تركته”.
نهاية حياته
أمضى أوبنهايمر بقية سنواته مهتمًا بشكل متزايد بالصراع بين الأخلاق والتقدم العلمي. أسس الأكاديمية العالمية للفنون والعلوم في عام 1960، جنبًا إلى جنب مع ألبرت أينشتاين، برتراند راسل، وجوزيف روتبلات. واصل إلقاء المحاضرات في جميع أنحاء العالم، وحصل على جائزة إنريكو فيرمي Enrico Fermi Award في عام 1963.
توفي بسرطان الحلق عام 1967في برينستون، نيو جيرسي.
تبرئة اسمه
في العام الماضي 2022، ألغت وزارة الطاقة الأمريكية رسميًا إلغاء لجنة الطاقة الذرية للتصريح الأمني لأوبنهايمر، واصفة عملية عام 1954 بأنها “معيبة”. وقالت وزيرة الطاقة جنيفر جرانهولم في بيان صدر في ديسمبر “مع مرور الوقت ظهر المزيد من الأدلة على تحيز العملية وعدم إنصافها التي تعرض لها الدكتور أوبنهايمر، في حين تم تأكيد الأدلة على ولائه وحبه للبلد”.
من المؤكد أن حياة هذا الرجل تعقدت على نحو كبير بعد ربط اسمه بالقنبلة الذرية، فكل شيء هنا على المحك، من آرائه الشخصية لعلاقاته السياسية.. وحتى العاطفية، كل شيء أصبح مباحًا للمساءلة العامة. ولكن ما لا يمكن إنكاره أبدًا هو عقليته الفذة وقدرته على مواجهة عواقب ما صنعه، فإحدى جمله الشهيرة بعد الانفجار كانت: “اليوم أنتم أبطال، ولكن بعد وقت قصير ستدانون جميعًا لسنوات طويلة”
أعتقد أن اختيار المخرج العالمي كريستوفر نولان لهذه الشخصية كبطل فيلم السيرة الذاتية المنتظر له، لم يكن صدفة أبدًا، فشخصية أوبنهايمر بأبعادها الفلسفية والروحانية، وبالتأكيد العلمية، تستحق تسليط الضوء عليها والتوغل في أعماقها والاستمتاع بمعرفتها، لذا إن كنت من محبي الأفلام، فهذا الفيلم هو رحلة درامية كاملة ومتعة بصرية تستحق المشاهدة.